Jab Jab

كيف تُفسد المنظمات مفهوم ومهنة صناعة الأفلام؟

إن في اختزال تعلم مهنة مُركبة ومعقدة كصناعة الأفلام في ورشة تدريبية قصيرة المدى مشكلة كبيرة. على خُطى ورش بناء السلام، وحل النزاع، تصمم المنظمات برامج تدريب صناعة الأفلام؛ ورش تمتد لأسبوع، شهر، أو ٢٠ ساعة موزعة على عدة أشهر. وغالباً ما يستخدم مصطلح صناعة الأفلام بشكل مُبهم، فلا تعرف على أي جزء من صناعة الأفلام تركز الورشة: الإخراج؟ الكتابة؟ الأداء؟ هندسة الصوت؟ تصميم الديكور؟ الأزياء؟ وفي الحالات الواضحة القليلة، تُحشر كل جوانب صناعة الفيلم في ورشة واحدة قصيرة.

ما زلنا نتذكر موجة المبادرات الشبابية التي اكتسحت المجتمع بداية العام ٢٠١١ واتسعت أكثر في العامين اللاحقين. حينها، كان الشباب يتحدثون عن التنمية البشرية، وكان الجميع يحمل شهادات في حل النزاع، مهارات التواصل، وبناء السلام وكانت الموضة أن تكون مدرباً في تلك المجالات. يغادر الشباب تلك الورش التدريبية بشهادة ومعرفة سطحية، وتغادر المنظمات بصور وبيانات مُقنِعة تقدمها للمانح. حضرتُ العديد منها وأصبحتُ مدرباً في سن السابعة عشر (من شأن هذا أن يخلق صورة واضحة حول جدية تلك المشاريع).

ومن ضمن المشاريع التي بدأت تنتشر في تلك المرحلة، ثم صارت تشغل مساحة أكبر مؤخراً، مشاريع تدريبية في صناعة الأفلام يقودها إداريون يفتقرون لأبسط مهارات أو مفاهيم تلك المهنة. تدعي تلك المشاريع أنها تقدم تدريباً في كيفية صناعة فيلم خلال مدة زمنية تتراوح بين أيام، شهر، أو حتى ثلاثة أشهر، على وزن “تعلم اللغة الإنجليزية في ثلاثة أيام”. وغالباً ما تحمل تلك المشاريع شعارات رنانة مثل “حقوق الانسان“ و “تمكين الشباب“ في عملية تسليح للأفلام بحيث تصبح أداة لخدمة أجندة معينة، لا تخصصاً لذاته تُقدم فيه القصة والتعبير الذاتي فوق كل شيء (ولا أدعي هنا أنها مؤامرة مخطط لها، ولست مهتماً هنا بمناقشة النوايا). منذ تلك المرحلة وحتى اللحظة، تستمر المنظمات في إنتاج صورة محرفة وهجينة عن مهنة صناعة الأفلام، ويواصل مفهوم “صانع الأفلام” نشؤه في بيئة استغلالية وضبابية.

مشاريع قصيرة–المدى

إن في اختزال تعلم مهنة مُركبة ومعقدة كصناعة الأفلام في ورشة تدريبية قصيرة المدى مشكلة كبيرة. على خُطى ورش بناء السلام، وحل النزاع، تصمم المنظمات برامج تدريب صناعة الأفلام؛ ورش تمتد لأسبوع، شهر، أو ٢٠ ساعة موزعة على عدة أشهر. وغالباً ما يستخدم مصطلح صناعة الأفلام بشكل مُبهم، فلا تعرف على أي جزء من صناعة الأفلام تركز الورشة: الإخراج؟ الكتابة؟ الأداء؟ هندسة الصوت؟ تصميم الديكور؟ الأزياء؟ وفي الحالات الواضحة القليلة، تُحشر كل جوانب صناعة الفيلم في ورشة واحدة قصيرة.

يشكل هذا الاختزال مشكلة كبيرة لأنه لا يأخذ إنتاج الفيلم كمهنة حقيقية (الدبلوم المهني مدته سنتين، بينما يمكنك تعلم صناعة الأفلام في ثلاثة أسابيع!)، فعلاوة على المدة القصيرة، تُغيب نظرية الفيلم Film Theory عن تلك الورش غياباً تاماً. متسلحين بعبارة المخرج تارانتينو “لا تحتاج جامعة كي تتعلم صناعة الأفلام”، يُهشّم أولئك الإداريون مفهوم صناعة الأفلام، متجاهلين حقيقة أن تارانتينو وكريستوفر نولان وغيرهم ممن لم ينخرطوا في برامج أكاديمية، يقرأون في النظريات الفيلمية ويتابعون مدارس سينمائية مختلفة، ويمكن ملاحظة ذلك ليس في أعمالهم فحسب، بل في الأعمال التي ينظرون لها بتقدير (اقرأ ما قاله الإيراني عباس كياروستامي والكوري بون جون هوو عن تارانتينو).

 تحدثتُ مع عدد من الشباب الذين شاركوا في تلك البرامج التدريبية في مناطق مختلفة من اليمن، وأخبروني جمعيهم أن نظرية الفيلم لا تُذكر على الإطلاق، لا يتم تحليل أي أفلام، ولا يتطرق المدربون حتى إلى تاريخ السينما. بالطبع، لا أستطيع أن أجزم قطعاً أن كل مخرج ناجح في التاريخ كان يقرأ في النظريات الفيلمية أو يشاهد مئات الأفلام، ولا أريد أن أبدو نخبوياً وأنا أركز على نظرية الفيلم وتاريخ السينما. لكنني أستطيع الجزم بأن الطرق المختصرة والحلول السريعة لا تبني أسساً قوية؛ خصوصاً أننا نحيا في بلد ما زالت تتلمس خطاها في السينما وصناعة الأفلام، كما أنه من البديهي أيضاً أن البيئة التي يبحث أصحابها عن أقصر الطرق وأسهلها لن تكون حاضنة لتخلق صناعة جادة.

لماذا لا تنفذ المنظمات مشاريع طويلة الأمد؟

في الواقع، هذا القرار ليس بيد المنظمات، بل بيد المانح. وهذه مشكلة عميقة تتجذر في طبيعة العلاقة التي تربط المنظمة بالمانح. لأن الجهات المانحة لا تملك حضوراً واسعاً على الأرض، فهي تشترط على المنظمات تقديم نتائج ملموسة وقابلة للقياس في مدة زمنية محددة. هذا الشرط يحد من طموح المنظمات ويرغمها على تحجيم أهدافها، وتحويلها إلى مشاريع صغيرة “سفري” يمكن قولبتها وبيعها للمانح. علاوة على أن المانح لا يمول إلا منظمات تحمل في جعبتها سلسلة مشاريع “ناجحة”، الأمر الذي يشجع المنظمات على تسريع مشاريعها وتهويلها.

يقودنا هذا الى موضوع العناوين الجذابة والتسويق المبالغ به لهذه المشاريع؛ فلكي تكسب المنظمة ثقة المانح، تسعى بكل الطرق الممكنة لبيع مشروعها على منصات التواصل الاجتماعي والمبالغة في تقرير النتائج (٤٠٠ متدرب. مليون مشاهدة..الخ). يُطلق أساتذة العلوم السياسية على هذا الأسلوب بـ “فخ السُمعة Reputation Trap”. أي أن هذه المنظمات، التي ينبغي أن تكون غير ربحية، في سعيها للبقاء وكسب أكبر قدر من المشاريع، تقع في فخ السُمعة وتتحول إلى نسخة طبق الأصل من الشركات الربحية، كما لاحظت دراسة أجراها علماء في جامعة نورث كارولينا.

 وحين تحاول المنظمات طرق وتشكيل مشاريع صناعة الأفلام كي تتناسب مع القالب الذي حدده المانح فهي تتناول المشكلة بأدوات غير مناسبة ولا تنظر إليها من زاوية إصلاح المشكلة، بل من زاوية بقاء المنظمة. فيكون الناتج برامج تدريبية قصيرة مهتمة بإنجاز التقارير أكثر من جودة المشروع نفسه.


تسليح الأفلام وتسليع المعاناة

في الغالب، تُركز المادة التدريبية التي تقدمها المنظمات على التصوير الوثائقي. توثيق المعاناة اليمنية، كي أكون دقيقاً أكثر. قد يعود هذا التركيز إلى الاعتقاد بأن الأفلام الوثائقية أسهل من الروائية، خصوصاً في اليمن، وقد يكون بسبب حقيقة أن معظم المنظمات لها باع في المجال الإغاثي والتنموي وهي بحاجة مستمرة لإنتاج تقارير مطولة عن المجاعة والحرب. فالمنظمات، كما ذُكر أعلاه، رهائن لدى المانح، وبالتالي فإن المعاناة هي “رأس المال” بالنسبة لها،  كما تكتب نوارة حنينة في مقال مهم تُركز فيه على تسليع المعاناة اليمنية.  تحت غطاء “الأفلام الوثائقية”، حيث يتم تدريب أولئك الشباب في كيفية استخدام كاميرا تصوير، تُعرض قوالب جاهزة تحث على تهييج مشاعر الحزن والشفقة. بعد مشاهدة “الأفلام” التي تنتجها المنظمات، يستنتج المشاهد أنه ليس أمام عملٍ ذي جودة حكائية فنية، بل مادة مباشرة يطغى فيها الاستخدام المفرط لموسيقى حزينة ولقطات موجعة لأفراد أرغمتهم الحياة أن يظهروا أمام الكاميرا.

في الحالات التي يستلم فيها المتدربين منحاً مالية لصنع فيلم قصير، تُفرض على المتدرب قيود وقوالب تضمن تركيزه على تلك القضايا. يأتي ذلك بعد أن سمع المتدربون في الورش التدريبية، أن قصصهم يجب أن تنقل معاناة الناس، أن تحمل رسائل توعوية\تناقش قضية معينة (الحرب، المجاعة، زواج القاصرات، تجنيد الأطفال..الخ).

 تختزن مخيلة الشاب هذا التصور عن القصص اليمنية، وحين يحاول إنتاج أعماله الخاصة لاحقاً، نراه يصنع فيلماً عن ضحايا الحرب محاولاً أن يحشد أكبر عدد من الرسائل التوعوية في عمله القصير. ذلك منطقي، من منظوره، لأن الفيلم أداة تعليم وتوعية. ولستُ هنا ضد أن تتخلل الفيلم رسائل توعوية، لكنني ضد الفيلم التوعوي. والفارق كبير. الفيلم التوعوي تشكل القضية\الرسالة قاعدته الأساسية وتتحرك كل الشخصيات والأحداث في سبيل إيصال تلك الرسالة. يسلب هذا التصور فردانية صانع الفيلم، تحجب عنه رؤيته المميزة للحياة، وتلهيه عن القصص التي تعكس الحياة اليمنية بكامل تعقيداتها وتركيباتها. يُفسد هذا التصور مفهوم الفن والأفلام ليس لدى المهتمين فحسب، بل لدى المشاهد بشكل عام، فالذائقة الفنية ليست فطرية بل مكتسبة.

غياب الكفاءة والمسؤولية الأخلاقية

لا ينحدر معظم مديري البرامج التدريبية من خلفيات فنية، وهذا يحد من إمكانياتهم على تصميم برامج مكتملة، ويضعف من قدرتهم على قياس فاعلية التدريب. ينتج عن هذه الفجوة المعرفية مفهوم مُبّسط ومسطح لمهنة صانع الفيلم، التي هي بالأساس مؤلفة من عدة مجالات؛ كالإخراج، والإنتاج وكتابة السيناريو وتصميم الديكور وهندسة الصوت وإدارة التصوير وتصميم الأزياء.  وللأسف، يتشرب الشباب المهتم تعريفاً محدوداً لصناعة الأفلام وينعكس ذلك على الطريقة التي يتناولون بها مشاريعهم؛ فإذا كان كل ما يحتاجه المتدرب لصناعة فيلم هي كمية المعلومات التي تلقاها من الورشة فسيتولد لديه شعور بالاكتفاء، والشعور بالاكتفاء، خصوصا لدى الفنان، فخً.

ولعل انخراط معظم من يشتركون في تلك الورش في مجال التصوير الوثائقي يفسر لنا تركيز المنظمات على هذا الجانب دون غيره. الأمر أشبه بالتجنيد؛ تستقطب المنظمات أولئك الشباب بذريعة الفن، ثم تحولهم إلى آلات لإعادة تدوير المعاناة اليمنية. يتحول الشباب من حالمين بصناعة الأفلام إلى مصورين إخباريين يتنقلون بين مخيمات النازحين في مهمة إيصال معاناتنا للعالم ومن أجل تقديم الإثبات المصور للمانحين أن كيس السكر وعلبة السمن وصلت بحفظ الله وسلامته. أخبرني أكثر من مصور في عدة لقاءات أجريتها بغرض كتابة هذا المقال، أن بعض المنظمات، إلى جانب فرض قوالب محددة لتلك “الأفلام”، يطلبون من المصورين، بطرق غير مباشرة، فبركة قصص الأُسر والتهويل من معاناتهم، إن أمكن. قصص الفبركة التي سمعتها كثيرة، وقصص محاولة الحصول على لقطة تبكي فيها الأسرة أو الطفل أكثر. ولست هنا بصدد نقاشها تفصيلاً حفاظاً على سرية مصادري. تتراوح أعمار المصورين بين ١٩ – ٣٠ سنة؛ أي أن المنظمات تتعامل مع أفراد يقفون على أعتاب حياتهم المهنية، وغياب المسؤولية الأخلاقية في التعامل مع هؤلاء الشباب خطير جداً. هذا التعامل اللامسؤول لا يفسدهم كفنانين فحسب، بل كمواطنين صالحين، في بلد يغرق في الفساد.

الحل؟

نحن نعلم أن معضلة الفن عموماً، والسينما خصوصاً، في اليمن لم تبدأ مع المنظمات، كما أن الحل ليس بيدها وحدها. المتعارف عليه أن غياب الدعم الحكومي ومحاربة المؤسسات الدينية للسينما يتحملان النصيب الأكبر. كما أن انتشار موضة صانعي المحتوى جعلت من الصعب إيجاد تعريف دقيق لصانع الأفلام (وهذا موضوع مقال منفصل).

مع ذلك، منذ الانقلاب على الدولة في ٢٠١٤، قامت المنظمات بدور الحكومة في أكثر من جانب وأخذت على عاتقها مهمة التنمية. تستند المنظمات على قضايا سامية كمحاربة الفقر، توفير المياه، تعليم الأطفال وتمكين الشباب، وتتقاضى عليها مبالغ مهولة. وبالتالي فإن هذه المنظمات ملزمة من منطلق المبادئ التي تدعيّ الإيمان بها، أن تكون مخلصة في أنشطتها ومشاريعها، وأن تتعامل مع شروط وقوالب المانح كفرصة للتفكير بحلول أفضل، لا كرخصة للتهرب من المسؤولية.

لماذا لا يتم اقتراح برامج توفير منح دراسية سنوية لدراسة السينما مثلاً في دول كمصر وتونس وتركيا، خصوصاً من قبل المؤسسات والمنظمات العريقة التي تملك علاقات وثيقة مع المانحين؟ هناك العديد من برامج المنح الدراسية التي تعتمد على دعم المانحين، وبإمكان المنظمات دراستها والاستفادة من تركيبتها.  لماذا لا يوجد مشروع لترجمة أهم الكتب والمقالات السينمائية إلى العربية وتوفيرها للمهتمين في الداخل؟ هذا مشروع يمكن صياغته في صورة مقترح مشروع وتقديمه للمانح بصورة مقنعة. لماذا لا يتم التعاقد مع معاهد تدريب صناعة أفلام دولية وتقديم دروس على الانترنت، مع جمع المتدربين في قاعة واحدة مُجهزة بتقنيات حديثة وخدمة انترنت سريعة تسمح لهم بحضور التدريب مجتمعين؟ هذه أيضاً فكرة يمكن صياغتها في صورة مشروع ومحاولة إقناع المانح بها.  أين دور مؤسسات الدراسات والأبحاث في دراسة اهتمام الشباب المتنامي في صناعة الأفلام وجاهزية المجتمع لتقبل فكرة السينما من عدمها؟ أفكار المشاريع الحقيقية وحلول المشاكل هذه موجودة، لكنها موجودة فقط حين نتوقف عن التعامل مع المتدربين كمجرد رقم تضعه على بيانات التقرير الذي يُرفع للمانح أو مشروع مُصور نقوم بإرساله لتوثيق معاناة اليمنيين. أنتم تملكون فرصة المساهمة في إنعاش السينما في اليمن، وأتمنى أن تأخذوها على محمل الجد.


Read More
Jab Jab

سد الغريب: ملاحظات على البنية والأداء

السيمفونيات وفنون الصور المتحركة (وأخص هنا الفيلم الروائي والمسلسل التليفزيوني) يبدوان في الظاهر من عالمين مختلفين؛ غير أنهما يتشابهان في سمات عديدة لعل أبرزها أن كلاهما يحكي قصة. لكن الخاصية التي تجعلهما متشابهين أكثر من أي شكل من أشكال التعابير الفنية الأخرى هي أنه لابد من التناغم والحوار السلس بين عشرات الفنانين حتى ينتج عنهم جميعاً عملاً متسقاً، لا يشعر المشاهد/المستمع معه بالغرابة (إلا إذا كانت الغرابة نفسها هي المغزى من العمل الفني). يتشابه هذان الشكلان بضرورة وجود مايسترو (conductor) ومخرج يقوم برسم مدارات يسبح فيها كل فنان على حدة، لكن رؤيته الشاملة تقدم عالماً موحداً ومتماسكاً. ولهذا، لا يقول البيانو كل ما يريد قوله لمجرد أن صوته جميل، ولا ترينا الكاميرا كل ما تريد تسجيله لمجرد أن الصورة جذابة. وينطبق هذا على الدراما التليفزيونية. وحتى نجعل كلامنا أكثر تحديداً، فإن النقاش هنا سيدور حول الدراما اليمنية وبالتخصيص مسلسل سد الغريب.  بالرغم أن سد الغريب قدم للمشاهد اليمني عملاً غير مألوف، إلا أن محاولة القصة أن تقول كل شيء، علاوة على عدم تماسك النص والحوار، وأداء الممثلين الخجل والقلق قدمت عملاً اختلف شكلياً عما هو سائد في الدراما اليمنية، لكنه لم يعالج مشاكلها الأعظم: السيناريو والأداء.

السيمفونيات وفنون الصور المتحركة (وأخص هنا الفيلم الروائي والمسلسل التليفزيوني) يبدوان في الظاهر من عالمين مختلفين؛ غير أنهما يتشابهان في سمات عديدة لعل أبرزها أن كلاهما يحكي قصة. لكن الخاصية التي تجعلهما متشابهين أكثر من أي شكل من أشكال التعابير الفنية الأخرى هي أنه لابد من التناغم والحوار السلس بين عشرات الفنانين حتى ينتج عنهم جميعاً عملاً متسقاً، لا يشعر المشاهد/المستمع معه بالغرابة (إلا إذا كانت الغرابة نفسها هي المغزى من العمل الفني). يتشابه هذان الشكلان بضرورة وجود مايسترو (conductor) ومخرج يقوم برسم مدارات يسبح فيها كل فنان على حدة، لكن رؤيته الشاملة تقدم عالماً موحداً ومتماسكاً. ولهذا، لا يقول البيانو كل ما يريد قوله لمجرد أن صوته جميل، ولا ترينا الكاميرا كل ما تريد تسجيله لمجرد أن الصورة جذابة. وينطبق هذا على الدراما التليفزيونية. وحتى نجعل كلامنا أكثر تحديداً، فإن النقاش هنا سيدور حول الدراما اليمنية وبالتخصيص مسلسل سد الغريب.  بالرغم أن سد الغريب قدم للمشاهد اليمني عملاً غير مألوف، إلا أن محاولة القصة أن تقول كل شيء، علاوة على عدم تماسك النص والحوار، وأداء الممثلين الخجل والقلق قدمت عملاً اختلف شكلياً عما هو سائد في الدراما اليمنية، لكنه لم يعالج مشاكلها الأعظم: السيناريو والأداء.

يحكي سد الغريب قصة قبيلتين متنازعتين، المجاورة والرياحنة، على سد الماء المشترك بينهما. ويتنقل المسلسل بين حقبتين زمنيتين إحداهما في ثمانينات القرن الماضي والأخرى معاصرة لنا مصوراً للمشاهد أحداث النزاع وما خلفه من شتات لأُسر القريتين، ومن ضغينة بين أبنائها.


المسلسل فكرة وبطولة “عبدالله يحيى إبراهيم” الذي يلعب شخصيتي يحيى وأمير، نص وحوار “يسرى عباس”، و إخراج “هاشم هاشم”. يظهر في سد الغريب عدد من الممثلين المخضرمين في التلفزيون اليمني مثل “نبيل حزام” في دور حميد و”نجيبة عبدالله” في دور خيزران.

هل قدم سد الغريب محتوى غير مألوف من الدراما اليمنية؟ بالطبع؛ فباتباعه لشكل الحكاية اللا-خطي (non-linear storytelling)، الذي يتنقل بين حقب زمنية مختلفة بنفس القدر من الأهمية في كل حلقة من حلقات المسلسل، يقدم لنا هاشم هاشم شكلاً روائياً جديداً على المشاهد اليمني. تجنب عباس لخلق شخصيات كوميدية ساذجة يحسب لها ويميز العمل عن بقية المسلسلات. فضلاً عن أن موسيقى محمد القحوم بالغة الجمال تستحق الإشادة. مع هذا، فهل كل غير مألوف يعني بالضرورة أنه أفضل أو أسوأ؟ أم أنه يبقى دائماً خيار أن المختلف يشبه، جوهرياً، السائد؟

“القصة التي تحاول أن تقول كل شيء، لا تقول شيئاً” يردد أساتذة صناعة الفيلم والتلفزيون. سيقول أحدهم إن ما يملكه كاتب المسلسل من وقت ومساحة يؤهله لخلق أكثر من قصة واحدة والعديد من الشخصيات المحورية، على عكس الفيلم، وهذا صحيح.  لكن التحدي الأصعب يبقى دائماً في قدرة الكاتب على استغلال المساحة والوقت لخلق علاقة متوازنة بين الشخصيات والمفاهيم التي تجسدها القصة لكي يخلق للمُشاهد تجربة غامرة لا تسرد الأحداث فحسب بل تُشركنا فيها.  في مقابلة مع الصحفي سمير النمري، قالت عباس إن المسلسل تناول “الكثير من القضايا الاجتماعية في الريف والمدينة أهمها الماء، والمال، والفقر، والقهر، والمرض، والخداع، والطمع، والقتل، والغدر”. فنتج عن محاولة التركيز على هذا العدد الكبير من القضايا مشاهد مجتزئة واستكشاف غير مكتمل، غير ناضج لتلك القضايا.

مثلاً، تكتفي الحلقات بسرد مختصر للأحداث يعين فقط على فهم خطوط القصة لا الإحساس بها. في أول خمس حلقات يفهم المشاهد، عبر حوارات الشخصيات المباشرة، أن القريتين تجدان صعوبة في الحصول على الماء، لكنه لا يشعر بمعاناتهما. لم نرَ مشقة أسرة واحدة، ولا أرضاً جدباء. على العكس تماماً، في الحلقة الأولى، قرر يحيى أن يمازح أخته ريحانة “ريهام جبران” التي تحمل فوق رأسها دلو ماء، فكان أن سقط الدلو وفُرط بما فيه. في مشهد آخر، في الحلقة الثانية، يلتقي أحد أبناء القرية “سمير الجرباني” بالحاج عابد “عبد الرحمن المسيبي” ليشتكي إليه من حاجة القرية—التي شرع أهلها في النزوح—إلى الماء مقترحاً عليه بناء سد خاص بهم. فكان جواب الحاج عابد أن الحل هو صلاة الاستسقاء. ثم هطل المطر بعد الصلاة. في المثال الأول، خسر المخرج ثقة المشاهد في أن وجود الماء يشكل أزمة وجودية ليحيى وأسرته، فالجيل الذي نشأ 26 عاماً وهو يعاني من شحة الماء لن يفرط فيه بسهولة. أما المثال الثاني فيجسد ما يعنيه الاكتفاء بسرد الأحداث؛ ذلك أن المشهد من أوله إلى آخره لم يكن أكثر من استخدام الشخصيات كأداة لشرح ما حدث وسيحدث. لم يصرّ صاحب فكرة بناء السد على فكرته، وكيف قبِل بصلاة الاستسقاء كإجابة لمقترحه بتلك السهولة؟ علاوة على ذلك، أضاعت الكاتبة فرصة ذهبية لتصوير معاناة تلك القرية. في كتابة السيناريو، لا يُفرط بأي فرصة لتأجيج الصراع الرئيسي وتقويته، لكن سد الغريب في أكثر من مشهد يتخلى عن تلك الفرص ويمر بجانبها.  ماذا لو لم يهطل المطر؟ ماذا لو اضطر الحاج عابد وجماعته لبناء سد وهم لا يستطيعون بناءه؟ محاولة تغطية قضايا كثيرة وقصص عديدة (محاولة قول كل شيء) تسلب الكاتب فرصة الغوص أعمق وأعمق في كل قضية على حده واستكشاف صراعات أكثر تأثيراً وتعقيداً؛ وهو ما تتغذى عليه الدراما.

وعليه، فإن دراما سد الغريب تعاني من اللاتماسك على مستوى النص، والحوار، وأداء الممثلين. ينتج عن البناء غير الناضج والمستعجل لعالم القصة شخصيات تبدو وكأنها تتصرف بمعزل عن بعضها البعض وأن الحوار الذي تقوله، في أحيان كثيرة، لا يدفع القصة إلى الأمام، بل يخلق تناقضات لا تخدم مسار القصة. والتناقضات التي صورتها الحلقة الثانية عن شخصيتي حميد والحاج مقدام مثالاً نموذجياً. فيها، يقول يحيى لعلوي “إبراهيم الزبلي” أن حميد هو سبب كل ما بين القبيلتين من نزاع. بينما المشاهد التي سبقته لا تُظهر حميد بوصفه الرجل الذي يهابه الجميع؛ تشاجر حميد مع يحيى أمام السد؛ لأن الأخير عرضه للبيع. وفي المشهد التالي، يقرّ الحاج مقدام “محمد الحرازي”، الذي يبدو أنه واجهة الرياحنة، صارماً في وجه حميد بأن السد ملك المجاورة والرياحنة. تجتمع، لاحقاً، القريتان بجانب الغريب. يعبّر المجاورة عن رغبتهم بطيّ صفحة الماضي وفتح السد واضعين أمام الرياحنة دلاء ماء فارغة. يرفض الحاج مقدام طلبهم معللاً ذلك بصعوبة نسيان ما قاموا به بسهولة. يسأل بعدها حميد: “أنا أشتي أفهم لأرض من عتفحتوا الماء؟”. فيرد عليه الحاج مقدام، الذي هو فرد من قبيلته، بأن كل هذه الأرض ملك للرياحنة ليدخلوا بعدها في مشادة كلامية يتهم فيها الحاج مقدام حميد، ضمنياً، بالسرقة. وأمام القبيلة العدوّ! إذا كنا نتحدث عن القبيلة اليمنية التي ينصر أبناءها بعضهم بعضاً ظالمين ومظلومين، فكيف يسمح الحاج مقدام للقبيلة المقابلة أن تراهم على هذا الشكل؟ إذا كان حميد بالقوة التي تبقي على هذا النزاع لـ٢٦ عاماً، فلماذا يواجهه الجميع بهذه السهولة؟ ما الذي تمثله شخصية الحاج مقدام؟  هل هو قبيلي متعصب؟ إذا كان كذلك فلماذا يعارض حميد أمام القبيلة الأخرى ولا يكتفي بمعارضته داخل قبيلته؟ هل هو قبيلي متفهم؟ أم أن تصرفاته يحكمها كل مشهد على حدة، بمعزل عن المشاهد الأخرى؟ في المقابل، كيف ينسى الحاج عابد، شيخ المجاورة، أن صابر ابن قبيلته قُتل على يد راجح ابن قبيلة الرياحنة ويتجاهل نقطة من شأنها أن تكون لصالحه في النقاش عن إعادة فتح السد؟ .

أما مشهد قتل راجح لصابر فكان واضحاً أن أجزاءه لم تكن تتفاعل مع بعضها بسلاسة وبشكل طبيعي، وكمحصلة كان لدينا صورة مفككة لا تعكس واقع القبيلة التي يعرفها اليمني. يبدأ المشهد مع راجح وهو يضع أحجاراً لإغلاق السد. يصل صابر وبجانبه امرأة يأمرها أن تتجاوز أحجار راجح وتصعد إلى حيث الماء. ترفض المرأة. فجأة، ومن خارج السياق، يقول صابر: “أو قد نسيتي إنه طلقش وباعش بالرخيص”. منطقياً، تستفز هذه العبارة راجح ليبدأ بينهما عراك ينتهي بمقتل صابر وفرار راجح. يتزامن سقوط صابر مع وصول القبيلتين وبدلاً من أن تنشب بينهم مشادة (بالأيدي على الأقل)، يقف كلهم حول الجثة. البعض يردد “لا حول ولا قوة إلا بالله” والبعض الآخر يحرك يديه باستغراب، بينما يجلس حبيب، شقيق صابر، بجانب جثة أخيه معاتباً الرياحنة لمدة طويلة نسبياً مع ما يفرضه الحادث من انفعالات، قبل أن يلحق براجح. مرةً أخرى، ما قاله صابر للمرأة كان غير مبرر ولا ينتمي لسياق المشهد. هنالك الكثير من الأساليب لكتابة ما يستفز راجح على أن يكون له علاقة بالقبيلة أو بالغريب بدون الحاجة لاستخدام عبارة لا تربطها أية علاقة مع رفض المرأة لصعود السد. إن حوارات من خارج السياق كهذه تُظهر ضعف بنية الحوار وعدم اتساقه مع النص مما يدل على أن المشهد بُني على عجل وبمعزل عن العالم الواقعي الذي يسعى المسلسل لتصويره.

ثم إن انفعالات الشخصيات في هذا المشهد توضح كيف أنها تتصرف بمعزل عن بعضها البعض؛ هناك جثة ملقاة على الأرض، بينما يقف الحاج عابد والحاج مقدام وثلاث شخصيات أخرى ببرود. حتى ناصر “طارق ردمان”، الذي يفترض أن يقف على الضد من حميد دائماً، يقف بصمت وحميد يهدد ويتوعد. أي معرفة بسيطة يملكها أحدنا كيمنيين بحياة القبائل والمسارات التي تأخذها الأحداث، خاصة أثناء تنازعها، سيشعر أن هذا المشهد محاولة تقليدية غير متقنة، مستغرباً كيف أن حدثاً كهذا لم يؤجج صراعاً يمكن أن تُبنى عليه حلقات المسلسل المتبقية كلها. وبالرغم أن مرحلة كتابة النص والحوار تتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية هذا الشتات، فإن الارتباك الذي تظهر عليه الشخصيات في المشهد الواحد يقع ضمن مسؤولية المخرج. باعتقادي أن أكثر أدوار المخرج أهمية هي تفسير النصوص للممثلين وشق الطريق الذي يقود إلى فهم أعمق لشخصياتهم. بل هو من يقود رحلة الفهم تلك وهو الذي يحدد مسارها. بالنظر للمشاهد أعلاه، وغالبية المشاهد التي تجمع أكثر من شخصين، مع التركيز على الشخصيات التي لا تتحدث، حتى وإن كانت هي المخاطبة، يجد المشاهد أن الممثل (ولا أقول الشخصية التي يتقمصها) يتجمد أو يعمل جاهداً لإظهار انفعالاته التي تبدو مصطنعة. ذلك أن تلك الشخصيات لا يميزها إلا الحوارات التي تظهر وكأنها تُلقى من على منبر خطبة: محفوظة ومُسمَّعة.

(خارج سياق هذا المقال، وقبل أن أختم، ينبغي أن نتذكر دائماً أننا بحاجة إلى التجربة. لكننا أيضاً بحاجة، بنفس القدر من الأهمية، إلى التراكم المعرفي والنقد. تجنبتُ في هذا المقال مناقشة الخيارات الإخراجية باستثناء الأداء، رغبة في التركيز على النص والحوار والأداء. تجنبتُ على وجه الخصوص جانبي التصوير (السينماتوغرافي) الذي لاحظتُ أنه خرق قواعد تصويرية كثيرة بلا مبرر مفهوم، بالإضافة إلى الاستخدام المفرط للموسيقى.)

ختاماً، في عالم قول القصص المرئية كل شيء ممكن. لكنك ملزم بخلق عالم لقصتك واتباع قوانينه. حينئذِ، ستبدو قصتك أكثر واقعية وإقناعاً للمشاهد. أما العالم الذي بلا قوانين فيروي قصة هلامية. وكما السيمفونية، فالصور المتحركة تحتاج، قبل وأهم من كل شيء، إلى نص مكتوب بتعقيد وأداء متناغم ومؤثر. والتعقيد هنا ليس نقيض البساطة، كما أن البساطة ليست مرادفاً للضعف. الأعمال المعقدة هي تلك التي تقول الكثير بالتركيز على النوع لا على الكم. هي تلك التي تختبئ خلف أحداثها وأفعالها وحواراتها معانٍ أكبر. والأهم من هذا كله، هي تلك التي تقول قصةً مكتملة، ومتماسكة. وسد الغريب، بالرغم من محاولاته لتقديم شكل جديد للرواية الدرامية، لم ينجح في معالجة أهم مشكلتين في صناعة المسلسل اليمني: السيناريو والأداء.

Read More
Jab Jab

تجربة السينما الإيرانية الجديدة: دعوة للدراسة

يدرس رواد الحركات السينمائية تلك المدارس ويطورون منها (مثل الإيطالييَن روسيلليني ودي سيكا، الفرنسييَن جودارد وتروفو، والإيرانييَن مهرجويي وكيمايي). فكما استفادت الواقعية الجديدة الإيطالية من الواقعية الشعرية الفرنسية (Poetic Realism)، تعلمت الموجة الجديدة في فرنسا من مدرسة إيطاليا. ثم جاء المخرج الإيراني ونهل من المدرستين، مقدماً السينما الإيرانية الجديدة (New Iranian Cinema). وبسبب القرب الجغرافي، الثقافي، والاجتماعي بين إيران واليمن، تُركز هذه المقالة على التجربة الإيرانية وتبحث في الخصائص التي بإمكان صانع الأفلام اليمني أن يستلهم منها في تجربته. 


يتنامى اهتمام الشباب اليمني بصناعة السينما بصورة لافتة مؤخراً. اختار بعضنا الدرب الأكاديمي منخرطين في معاهد سينمائية وجامعات، بينما اتجه الباقون، وهم كثر، نحو التعليم الذاتي عبر مواقع تعليمية على الإنترنت—لعدة أسباب، أهمها ندرة الفرص وصعوبتها. هذه الجهود مشجعة، ولا شك في أنها تدعو للتفاؤل. والمأمول هو أن تستمر التجارب حتى تتكون حركة سينمائية يمنية ناضجة في السنوات القادمة. ولن يتسنى لها ذلك إلا عبر الاستفادة من تراكمات التجارب في مجال صناعة السينما في مختلف الدول؛ ولا سيما تلك التي تقع في محيطها الإقليمي وتتشابه معها في سياقاتها الثقافية.

تنشأ الحركات السينمائية وسط عوامل ثقافية وتاريخية تُهيئ لها أسباب وجودها. بعضها نشأ لأسباب سينمائية بحتة كحركة الموجة الجديدة في فرنسا (French New Wave) التي أسسها نُقاد سينمائيون في أواخر الخمسينات ممن تحولوا لصناع أفلام بسبب استيائهم من هوليوود والبنية الآلية التي أخذتها الأفلام. وبعضها لأسباب سياسية كحركة سينما العالم الثالث (Third World Cinema) التي نشأت في الأرجنتين في ستينات وسبعينات القرن الماضي ثم توسعت لتشمل أجزاء من “دول العالم الثالث” كردة فعل على الإمبريالية والرأسمالية الغربية. وهنالك حركات نشأت لتلك الأسباب مجتمعة كحركة الواقعية الجديدة في إيطاليا (Neorealism). غير أن العامل المشترك هو أنها لم تنشأ بمعزل عن تلك التي سبقتها.

يدرس رواد الحركات السينمائية تلك المدارس ويطورون منها (مثل الإيطالييَن روسيلليني ودي سيكا، الفرنسييَن جودارد وتروفو، والإيرانييَن مهرجويي وكيمايي). فكما استفادت الواقعية الجديدة الإيطالية من الواقعية الشعرية الفرنسية (Poetic Realism)، تعلمت الموجة الجديدة في فرنسا من مدرسة إيطاليا. ثم جاء المخرج الإيراني ونهل من المدرستين، مقدماً السينما الإيرانية الجديدة (New Iranian Cinema). وبسبب القرب الجغرافي، الثقافي، والاجتماعي بين إيران واليمن، تُركز هذه المقالة على التجربة الإيرانية وتبحث في الخصائص التي بإمكان صانع الأفلام اليمني أن يستلهم منها في تجربته. 

تاريخ الصناعة السينمائية في إيران

دخلت إيران عالم السينما مبكراً. في1925 قام المخرج والمخترع الأرميني-الإيراني أوفانيس أوهانيان بتأسيس أول مدرسة للأفلام، وأخرج أول فيلم سينمائي إيراني في 1930 بعنوان “آبي ورابي”. أنتجت بعدها إيران عشرات الأفلام سنوياً لمدة ثلاثة عقود، في فترة يطلق عليها بعض النقاد FilmFarsi. كانت معظم أفلام تلك الحقبة تجارية بحتة، متأثرة بسينما بوليوود. لكن التحول الأكبر الذي غيّر شكل السينما الإيرانية وأعلن ظهور الموجة الجديدة الإيرانية (Iranian New Wave) حدث في سنة 1969 مع إنتاج ثلاثة أفلام: “البقرة” لداريوش مهرجويي، “قيصر” لمسعود كيمايي، “والهدوء في حضرة الآخرين“ لناصر تقوايي. تتابعت بعدها الأعمال الفنية التي حذت حذوها كفيلم “عاصفة 1972 لبهرام بيضائي و “المسافر 1974 لعباس كياروستامي قبل أن يتوقف مدّ الموجة الجديدة مصطدمة بصخرة الثورة الإسلامية. إذ اعتبر النظام الإسلامي السينما وسيلة “لإفساد الشباب”، حسب تعبير آية الله خميني، حتى عاد الرجل نفسه وأباح وجودها ضمن مساحات تعبير مسورة ومراقبة.[1] حينئذ عادت الحركة السينمائية واستؤنفت انتاجاتها مع المخرج أمير نادري عبر فيلم العداء 1984، ومع عباس كياروستامي في فيلمه الذي وضع السينما الإيرانية على الساحة العالمية أين منزل صديقي 1987. ويختلف النقاد على تسمية الحركة بين الموجة الجديدة الثانية والسينما الإيرانية الجديدة، لكننا في هذه المقالة سنشير لها بالسينما الإيرانية الجديدة، على الرغم من أنها تمثل امتداداً للحركة السابقة.


صناعة السينما في اليمن

على المستوى اليمني بشطريه، كانت السينما، وما زالت، فكرةً تجيء وتذهب منذ خمسينيات القرن الماضي، حتى أنتج وأخرج السلطان صالح بن غالب القعيطي في حضرموت فيلم “عبث المشيب” في 1950، و” من الكوخ إلى القصر” الذي أخرجه الفنان جعفر محمد علي، في العام 1963 بعدن[2]. ثم توقفت بعدها محاولات الإنتاج المحلي حتى بدايات الألفية الثالثة. ذكرت الناقدة هدى جعفر في مقال نشرته على موقع “عين على السينما” أن حكومة يمن ما بعد-الوحدة أنشأت المؤسسة العامة للمسرح والسينما، والمعهد العالي للفنون المسرحية، وبحسب الكاتبة، فإنهما لم يكونا سوى “وكرًا آخر للنّهب“[3]. لعل أول محاولة سينمائية روائية تستحق الإشادة تتمثل في فيلم “يوم جديد في صنعاء القديمة 2005” للمخرج بدر بن الحرسي، يليه فيلم “أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة 2014” لخديجة السلامي، وصولاً إلى فيلم “عشرة أيام قبل الزفة”2019 لعمرو جمال. وخلال المراحل الزمنية التي تفصل تلك الأفلام محاولات مستمرة يقوم بها مخرجون ومخرجات شباب عبر أفلام قصيرة يصنعونها بإمكانياتهم الخاصة والبسيطة.

إمكانيات بسيطة

بإمكانيات بسيطة وشحيحة كذلك، صُنعت وتُصنع معظم أفلام السينما الإيرانية الجديدة. تتسم أفلام الحركة ببساطة الصورة، قلة مواقع التصوير، ارتكازها على أماكن وشخصيات حقيقية، والاعتماد على شخصية رئيسية واحدة تتمحور حولها القصة كلها. في 1997، توّج مهرجان “كان” السينمائي عباس كياروستامي بجائزة السعفة الذهبية عن فيلمه “طعم الكرز”، وهي الجائزة الأهم في المهرجان. يحكي الفيلم قصة رجل أربعيني (إرشادي همايون) يجوب بسيارته شوارع طهران بحثاً عن شخص يقوم بدفنه بعد أن ينتحر. تدور معظم أحداث الفيلم داخل السيارة، وبين الفينة والأخرى يصور لنا جبال طهران وناسها. غير أن الحوارات التي يخوضها الأربعيني مع الشخصيات—التي يطلب منها تلك الخدمة الصادمة—حول جدوى الحياة وإحباط الإنسان الإيراني تقدم لنا عملاً استحق أن تُصنفه الـبي بي سي ضمن أعظم مائة فيلم.  اضطر لاتباع نفس النمط المخرج جعفر باناهي حين صدر بحقه حكم قضائي، في 2011، يمنعه من الكتابة والإخراج لمدة عشرين عاماً. إذ تحايل، بعدها بأربع سنوات، على هذا الحكم، وقرر قيادة سيارة أجرة، قام خلالها بتصوير محادثاته مع الركاب، منتجاً فيلم” تاكسي”2015 الذي تم تهريبه للمهرجانات الدولية. تدور في الفيلم نقاشات حول ثقافة الإيرانيين السينمائية وحبهم لها بالرغم من نظام الرقابة. فاز الفيلم بجائزتي النقاد والدب الذهبي في مهرجان برلين الدولي 2015.

نموذج القصة القصيرة:

 تعتمد السينما الإيرانية الجديدة في صناعة الأفلام الروائية الطويلة على “نموذج القصة القصيرة” حسب تعبير حميد نفيسي، أحد مؤرخي السينما الإيرانية. يقتبس نفيسي، في كتاب التاريخ الاجتماعي للسينما الإيرانية، من الناقد الأمريكي إم. إتش. إبرامز قوله إن كاتب القصة القصيرة “يُقدم عدداً محدوداً من الشخصيات لأنه لا يمتلك رفاهية التطوير والتحليل المطول للشخصية، ولا يستطيع خلق الجو الاجتماعي العام كما يستطيع كاتب الراوية“[4]. وكذلك يدرك المخرج الإيراني أنه لا يمتلك الإمكانيات الإنتاجية والمساحة التعبيرية التي قد يملكها مخرج أوروبي أو أمريكي. ففيلم “العدّاء” يأخذنا في رحلة عدوٍ على امتداد الميناء والبحر برفقة طفل خسر منزله بسبب الحرب. وفي فيلم “أين منزل صديقي؟”، نستكشف قرى كوكر وبوشته الإيرانيتين وناسها بعيني طفل يبحث عن منزل زميله في المدرسة كي يعيد إليه دفتره. ونتتبع في فيلم “المرآة “1997، لجعفر باناهي، الطفلة التي لم تأت والدتها لأخذها من المدرسة فتقرر البحث عن منزلها في شوارع طهران المزدحمة. قد تبدو هذه القصص مفرطة في سهولتها، لكن مشاهدتها بتمعن تقودنا إلى إدراك أن هذه الأفلام بسيطة، لكنها ليست سهلة. تُقدم لنا تلك الأفلام حوارات فلسفية وأخلاقية، تنقل لنا مشاهد من حياة الإنسان الإيراني، وصوراً شعرية يعتقد المشاهد لفرط جمالها أن الصدفة خلقتها، متجاوزة رؤية المخرج، لكنها، في الحقيقة، مُصممة بدقة فائقة. إن نموذج القصة القصيرة بعدد شخصياته ومواقعه المحدودة قد يُمكن المخرج اليمني من الاشتغال، بإمكانياته المتوفرة، على أفلامٍ مكتملة ومتماسكة. والأهم من ذلك، قد يُلهمه التركيز على قصص لا تنحصر حول الثأر والموت وزواج القاصرات والإرهاب (شخصياً، كان موضوع الإرهاب من نصيب أول فيلم لي).


اليومي والاعتيادي والتجذّر في ثقافة البلد:

 تُركز قصص السينما الإيرانية الجديدة على الحياة اليومية، العادية، والاعتيادية. سواء كان ذلك لأسباب سياسية كضيق مساحة التعبير وصرامة نظام الرقابة الإسلامي، أو لأسباب فنية مثل تأثر مخرجين كعباس كياروستامي وجعفر باناهي ومحسن مخملباف بشعراء صوفيين ذوي أصول فارسية كجلال الدين الرومي وعمر الخيام وحافظ الشيرازي، أو تأثير أفلام إيطالية تنتمي لمدرسة الواقعية الجديدة كأفلام روسيلليني ودي سيكا. لكن الدافع الأهم، كما يظهر في أفلام أولئك المخرجين، هو شغفهم بتفاصيل الحياة الإيرانية والإنسان الإيراني.  “لكي تصنع عملاً يستطيع فهمه جميع من في العالم، عليك أن تتجذر عميقاً في ثقافة بلدك…تعرّف على الأماكن والناس وأفكارهم، ما يسعدهم وما يقلقهم“قال عباس كياروستامي[5] . في فيلم “ستحملنا الرياح”1999، من إخراج الأخير، يذهب فريق تصوير لتغطية خبر وفاة امرأة تجاوز عمرها المائة، لكنهم يكتشفون فور وصولهم أن المرأة لم تمت بعد، فيمكثون في ترقب. وبينما هم منتظرون، يستكشف مدير الطاقم حياة أبناء القرية وحكمتهم. وفي فيلم المرآة، يأخذنا جعفر باناهي برفقة الطفلة التي تحاول إيجاد منزلها. على متن الباص، ينسى المُشاهد الطفلة لوهلة ويستمع لمحادثات الناس التي لا تقول شيئاً ذا أهمية لكنها نقاشات آسرة وممتعة. واليمن ثري بتنوع لهجاته، ثقافاته، أراضيه، وأبنائه، وإن تجذرنا عميقاً في هذه المجتمعات، فسنحكي قصصنا للعالم؛ لا ليفهمها فحسب، بل ليستشعرها ويتأثر بها.


العمل مع اللاممثلين:

أحد أبرز الخصائص التي تعلمتها المدرسة الإيرانية من الواقعية الجديدة هي عملها مع ممثلين غير محترفين أو ما يُعرف باللاممثلين (Non-actors)، وبالأخص سينما عباس كياروستامي. في كتاب” دروس مع كياروستامي”، الذي يلخص المحاضرات التي قدمها طوال حياته، يحذر تلاميذه من العمل مع أنصاف المحترفين، أي مع الممثلين غير الجيدين، فإما أن تعمل مع ممثل محترف، متقن لمهنته ومتحكم بموهبته، أو ابحث عن خيارات أخرى. وما هي تلك الخيارات؟ “من يستطيع أن يؤدي دور رجل أميّ، سائق تاكسي، أو امرأة متدينة، أفضل من رجل أميّ، سائق تاكسي، وامرأة متدينة” يجيب كياروستامي[6]. وهو، بالطبع، لا يقصد ما يقوله بالمعنى الحرفي، بقدر ما يقصد أن يبحث صانع الأفلام عن أناس من الشارع يحملون الصفات التي يبحث عنها المخرج. للعمل مع اللاممثلين تحدياته وعوائقه الخاصة، ولا يمثل حلاً سحرياً لمشكلة الشحة في الممثلين المحترفين، كما أنه يتطلب أيضاً قدرات إخراجية عالية لإقناع الناس وكسب ثقتهم.  ومع هذا، قد يكون هو الحل الأنسب للمخرج اليمني الذي دائماً ما يواجه صعوبة بالغة في الوصول إلى ممثلين.

حققت السينما الإيرانية الجديدة منجزات عديدة على الصعيد المحلي والعالمي ليس بسبب قدرتها على تجاوز الصعوبات فحسب، بل لأنها قدمت أعمالاً تعكس نظرة المخرجين الشاعرية والمعقدة للبلد والإنسان. ينسب حميد نفيسي أحد أسباب هذا النجاح لثقافة أولئك المخرجين العالية؛ في كتابه، يذكر أن مخرجي السينما الجديدة كانوا مفكرين ومثقفين قبل أن يكونوا فنانين، وأنهم صاروا شخصيات ذات احترام وتقدير في المجتمع؛ لأنهم، كعباس كياروستامي، يستخدمون الكاميرا كقلم، أو ما يطلق عليه “القلم-الكاميرا (Camera-pen)“[7]. أما الناقد أحمد طالبي نجاد، مؤلف كتاب “حدث بسيط: مراجعة للموجة الجديدة في السينما الإيرانية”، فيقول، في مقابلة أجراها في1995 لمجلة همشرى، أن مخرجي الموجة الجديدة طوروا من ذائقة المُشاهد الإيراني الذي لم يعد يقتنع بأفلام الأكشن والعنف، مستشهداً بفيلم “عبر أشجار الزيتون1994” (كياروستامي) الذي حصد 15 مليون تومان في فترة قصيرة، بينما فشلت أفلام الأكشن والعنف التي صدرت خلال نفس الفترة[8]. يتفق نفيسي وطالبي نجاد في أن أولئك المخرجين استطاعوا أيضاً تغيير نظرة بعض شرائح المجتمع الإيراني التي كانت تحمل وجهات نظر عدائية تجاه السينما. 

سبق تاريخ نشوء الحركات السينمائية سنوات كثيرة من الإعداد، والدراسة، والتجربة. ويرافق تلك السنوات الكثير من الإصرار. لم يكن طريق مخرجي السينما الإيرانية محفوفاً بالورود. على العكس تماماً، فلا يزال جعفر باناهي ممنوعاً من صناعة الأفلام بأمر من المحكمة، ويقبع المخرج محمد رسولوف في السجن أثناء كتابة هذا الموضوع. هذه ليست رسائل تحفيزية تبسط عوائق اليوم، وتسطح عملية تخلق حركة سينمائية، بل دعوة للاستعداد لها. وأتمنى أن يجد قارئ المقالة طريقه في هذه السينما التي تشبهنا جداً.


Read More