سد الغريب: ملاحظات على البنية والأداء
السيمفونيات وفنون الصور المتحركة (وأخص هنا الفيلم الروائي والمسلسل التليفزيوني) يبدوان في الظاهر من عالمين مختلفين؛ غير أنهما يتشابهان في سمات عديدة لعل أبرزها أن كلاهما يحكي قصة. لكن الخاصية التي تجعلهما متشابهين أكثر من أي شكل من أشكال التعابير الفنية الأخرى هي أنه لابد من التناغم والحوار السلس بين عشرات الفنانين حتى ينتج عنهم جميعاً عملاً متسقاً، لا يشعر المشاهد/المستمع معه بالغرابة (إلا إذا كانت الغرابة نفسها هي المغزى من العمل الفني). يتشابه هذان الشكلان بضرورة وجود مايسترو (conductor) ومخرج يقوم برسم مدارات يسبح فيها كل فنان على حدة، لكن رؤيته الشاملة تقدم عالماً موحداً ومتماسكاً. ولهذا، لا يقول البيانو كل ما يريد قوله لمجرد أن صوته جميل، ولا ترينا الكاميرا كل ما تريد تسجيله لمجرد أن الصورة جذابة. وينطبق هذا على الدراما التليفزيونية. وحتى نجعل كلامنا أكثر تحديداً، فإن النقاش هنا سيدور حول الدراما اليمنية وبالتخصيص مسلسل سد الغريب. بالرغم أن سد الغريب قدم للمشاهد اليمني عملاً غير مألوف، إلا أن محاولة القصة أن تقول كل شيء، علاوة على عدم تماسك النص والحوار، وأداء الممثلين الخجل والقلق قدمت عملاً اختلف شكلياً عما هو سائد في الدراما اليمنية، لكنه لم يعالج مشاكلها الأعظم: السيناريو والأداء.
يحكي سد الغريب قصة قبيلتين متنازعتين، المجاورة والرياحنة، على سد الماء المشترك بينهما. ويتنقل المسلسل بين حقبتين زمنيتين إحداهما في ثمانينات القرن الماضي والأخرى معاصرة لنا مصوراً للمشاهد أحداث النزاع وما خلفه من شتات لأُسر القريتين، ومن ضغينة بين أبنائها.
المسلسل فكرة وبطولة “عبدالله يحيى إبراهيم” الذي يلعب شخصيتي يحيى وأمير، نص وحوار “يسرى عباس”، و إخراج “هاشم هاشم”. يظهر في سد الغريب عدد من الممثلين المخضرمين في التلفزيون اليمني مثل “نبيل حزام” في دور حميد و”نجيبة عبدالله” في دور خيزران.
هل قدم سد الغريب محتوى غير مألوف من الدراما اليمنية؟ بالطبع؛ فباتباعه لشكل الحكاية اللا-خطي (non-linear storytelling)، الذي يتنقل بين حقب زمنية مختلفة بنفس القدر من الأهمية في كل حلقة من حلقات المسلسل، يقدم لنا هاشم هاشم شكلاً روائياً جديداً على المشاهد اليمني. تجنب عباس لخلق شخصيات كوميدية ساذجة يحسب لها ويميز العمل عن بقية المسلسلات. فضلاً عن أن موسيقى محمد القحوم بالغة الجمال تستحق الإشادة. مع هذا، فهل كل غير مألوف يعني بالضرورة أنه أفضل أو أسوأ؟ أم أنه يبقى دائماً خيار أن المختلف يشبه، جوهرياً، السائد؟
“القصة التي تحاول أن تقول كل شيء، لا تقول شيئاً” يردد أساتذة صناعة الفيلم والتلفزيون. سيقول أحدهم إن ما يملكه كاتب المسلسل من وقت ومساحة يؤهله لخلق أكثر من قصة واحدة والعديد من الشخصيات المحورية، على عكس الفيلم، وهذا صحيح. لكن التحدي الأصعب يبقى دائماً في قدرة الكاتب على استغلال المساحة والوقت لخلق علاقة متوازنة بين الشخصيات والمفاهيم التي تجسدها القصة لكي يخلق للمُشاهد تجربة غامرة لا تسرد الأحداث فحسب بل تُشركنا فيها. في مقابلة مع الصحفي سمير النمري، قالت عباس إن المسلسل تناول “الكثير من القضايا الاجتماعية في الريف والمدينة أهمها الماء، والمال، والفقر، والقهر، والمرض، والخداع، والطمع، والقتل، والغدر”. فنتج عن محاولة التركيز على هذا العدد الكبير من القضايا مشاهد مجتزئة واستكشاف غير مكتمل، غير ناضج لتلك القضايا.
مثلاً، تكتفي الحلقات بسرد مختصر للأحداث يعين فقط على فهم خطوط القصة لا الإحساس بها. في أول خمس حلقات يفهم المشاهد، عبر حوارات الشخصيات المباشرة، أن القريتين تجدان صعوبة في الحصول على الماء، لكنه لا يشعر بمعاناتهما. لم نرَ مشقة أسرة واحدة، ولا أرضاً جدباء. على العكس تماماً، في الحلقة الأولى، قرر يحيى أن يمازح أخته ريحانة “ريهام جبران” التي تحمل فوق رأسها دلو ماء، فكان أن سقط الدلو وفُرط بما فيه. في مشهد آخر، في الحلقة الثانية، يلتقي أحد أبناء القرية “سمير الجرباني” بالحاج عابد “عبد الرحمن المسيبي” ليشتكي إليه من حاجة القرية—التي شرع أهلها في النزوح—إلى الماء مقترحاً عليه بناء سد خاص بهم. فكان جواب الحاج عابد أن الحل هو صلاة الاستسقاء. ثم هطل المطر بعد الصلاة. في المثال الأول، خسر المخرج ثقة المشاهد في أن وجود الماء يشكل أزمة وجودية ليحيى وأسرته، فالجيل الذي نشأ 26 عاماً وهو يعاني من شحة الماء لن يفرط فيه بسهولة. أما المثال الثاني فيجسد ما يعنيه الاكتفاء بسرد الأحداث؛ ذلك أن المشهد من أوله إلى آخره لم يكن أكثر من استخدام الشخصيات كأداة لشرح ما حدث وسيحدث. لم يصرّ صاحب فكرة بناء السد على فكرته، وكيف قبِل بصلاة الاستسقاء كإجابة لمقترحه بتلك السهولة؟ علاوة على ذلك، أضاعت الكاتبة فرصة ذهبية لتصوير معاناة تلك القرية. في كتابة السيناريو، لا يُفرط بأي فرصة لتأجيج الصراع الرئيسي وتقويته، لكن سد الغريب في أكثر من مشهد يتخلى عن تلك الفرص ويمر بجانبها. ماذا لو لم يهطل المطر؟ ماذا لو اضطر الحاج عابد وجماعته لبناء سد وهم لا يستطيعون بناءه؟ محاولة تغطية قضايا كثيرة وقصص عديدة (محاولة قول كل شيء) تسلب الكاتب فرصة الغوص أعمق وأعمق في كل قضية على حده واستكشاف صراعات أكثر تأثيراً وتعقيداً؛ وهو ما تتغذى عليه الدراما.
وعليه، فإن دراما سد الغريب تعاني من اللاتماسك على مستوى النص، والحوار، وأداء الممثلين. ينتج عن البناء غير الناضج والمستعجل لعالم القصة شخصيات تبدو وكأنها تتصرف بمعزل عن بعضها البعض وأن الحوار الذي تقوله، في أحيان كثيرة، لا يدفع القصة إلى الأمام، بل يخلق تناقضات لا تخدم مسار القصة. والتناقضات التي صورتها الحلقة الثانية عن شخصيتي حميد والحاج مقدام مثالاً نموذجياً. فيها، يقول يحيى لعلوي “إبراهيم الزبلي” أن حميد هو سبب كل ما بين القبيلتين من نزاع. بينما المشاهد التي سبقته لا تُظهر حميد بوصفه الرجل الذي يهابه الجميع؛ تشاجر حميد مع يحيى أمام السد؛ لأن الأخير عرضه للبيع. وفي المشهد التالي، يقرّ الحاج مقدام “محمد الحرازي”، الذي يبدو أنه واجهة الرياحنة، صارماً في وجه حميد بأن السد ملك المجاورة والرياحنة. تجتمع، لاحقاً، القريتان بجانب الغريب. يعبّر المجاورة عن رغبتهم بطيّ صفحة الماضي وفتح السد واضعين أمام الرياحنة دلاء ماء فارغة. يرفض الحاج مقدام طلبهم معللاً ذلك بصعوبة نسيان ما قاموا به بسهولة. يسأل بعدها حميد: “أنا أشتي أفهم لأرض من عتفحتوا الماء؟”. فيرد عليه الحاج مقدام، الذي هو فرد من قبيلته، بأن كل هذه الأرض ملك للرياحنة ليدخلوا بعدها في مشادة كلامية يتهم فيها الحاج مقدام حميد، ضمنياً، بالسرقة. وأمام القبيلة العدوّ! إذا كنا نتحدث عن القبيلة اليمنية التي ينصر أبناءها بعضهم بعضاً ظالمين ومظلومين، فكيف يسمح الحاج مقدام للقبيلة المقابلة أن تراهم على هذا الشكل؟ إذا كان حميد بالقوة التي تبقي على هذا النزاع لـ٢٦ عاماً، فلماذا يواجهه الجميع بهذه السهولة؟ ما الذي تمثله شخصية الحاج مقدام؟ هل هو قبيلي متعصب؟ إذا كان كذلك فلماذا يعارض حميد أمام القبيلة الأخرى ولا يكتفي بمعارضته داخل قبيلته؟ هل هو قبيلي متفهم؟ أم أن تصرفاته يحكمها كل مشهد على حدة، بمعزل عن المشاهد الأخرى؟ في المقابل، كيف ينسى الحاج عابد، شيخ المجاورة، أن صابر ابن قبيلته قُتل على يد راجح ابن قبيلة الرياحنة ويتجاهل نقطة من شأنها أن تكون لصالحه في النقاش عن إعادة فتح السد؟ .
أما مشهد قتل راجح لصابر فكان واضحاً أن أجزاءه لم تكن تتفاعل مع بعضها بسلاسة وبشكل طبيعي، وكمحصلة كان لدينا صورة مفككة لا تعكس واقع القبيلة التي يعرفها اليمني. يبدأ المشهد مع راجح وهو يضع أحجاراً لإغلاق السد. يصل صابر وبجانبه امرأة يأمرها أن تتجاوز أحجار راجح وتصعد إلى حيث الماء. ترفض المرأة. فجأة، ومن خارج السياق، يقول صابر: “أو قد نسيتي إنه طلقش وباعش بالرخيص”. منطقياً، تستفز هذه العبارة راجح ليبدأ بينهما عراك ينتهي بمقتل صابر وفرار راجح. يتزامن سقوط صابر مع وصول القبيلتين وبدلاً من أن تنشب بينهم مشادة (بالأيدي على الأقل)، يقف كلهم حول الجثة. البعض يردد “لا حول ولا قوة إلا بالله” والبعض الآخر يحرك يديه باستغراب، بينما يجلس حبيب، شقيق صابر، بجانب جثة أخيه معاتباً الرياحنة لمدة طويلة نسبياً مع ما يفرضه الحادث من انفعالات، قبل أن يلحق براجح. مرةً أخرى، ما قاله صابر للمرأة كان غير مبرر ولا ينتمي لسياق المشهد. هنالك الكثير من الأساليب لكتابة ما يستفز راجح على أن يكون له علاقة بالقبيلة أو بالغريب بدون الحاجة لاستخدام عبارة لا تربطها أية علاقة مع رفض المرأة لصعود السد. إن حوارات من خارج السياق كهذه تُظهر ضعف بنية الحوار وعدم اتساقه مع النص مما يدل على أن المشهد بُني على عجل وبمعزل عن العالم الواقعي الذي يسعى المسلسل لتصويره.
ثم إن انفعالات الشخصيات في هذا المشهد توضح كيف أنها تتصرف بمعزل عن بعضها البعض؛ هناك جثة ملقاة على الأرض، بينما يقف الحاج عابد والحاج مقدام وثلاث شخصيات أخرى ببرود. حتى ناصر “طارق ردمان”، الذي يفترض أن يقف على الضد من حميد دائماً، يقف بصمت وحميد يهدد ويتوعد. أي معرفة بسيطة يملكها أحدنا كيمنيين بحياة القبائل والمسارات التي تأخذها الأحداث، خاصة أثناء تنازعها، سيشعر أن هذا المشهد محاولة تقليدية غير متقنة، مستغرباً كيف أن حدثاً كهذا لم يؤجج صراعاً يمكن أن تُبنى عليه حلقات المسلسل المتبقية كلها. وبالرغم أن مرحلة كتابة النص والحوار تتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية هذا الشتات، فإن الارتباك الذي تظهر عليه الشخصيات في المشهد الواحد يقع ضمن مسؤولية المخرج. باعتقادي أن أكثر أدوار المخرج أهمية هي تفسير النصوص للممثلين وشق الطريق الذي يقود إلى فهم أعمق لشخصياتهم. بل هو من يقود رحلة الفهم تلك وهو الذي يحدد مسارها. بالنظر للمشاهد أعلاه، وغالبية المشاهد التي تجمع أكثر من شخصين، مع التركيز على الشخصيات التي لا تتحدث، حتى وإن كانت هي المخاطبة، يجد المشاهد أن الممثل (ولا أقول الشخصية التي يتقمصها) يتجمد أو يعمل جاهداً لإظهار انفعالاته التي تبدو مصطنعة. ذلك أن تلك الشخصيات لا يميزها إلا الحوارات التي تظهر وكأنها تُلقى من على منبر خطبة: محفوظة ومُسمَّعة.
(خارج سياق هذا المقال، وقبل أن أختم، ينبغي أن نتذكر دائماً أننا بحاجة إلى التجربة. لكننا أيضاً بحاجة، بنفس القدر من الأهمية، إلى التراكم المعرفي والنقد. تجنبتُ في هذا المقال مناقشة الخيارات الإخراجية باستثناء الأداء، رغبة في التركيز على النص والحوار والأداء. تجنبتُ على وجه الخصوص جانبي التصوير (السينماتوغرافي) الذي لاحظتُ أنه خرق قواعد تصويرية كثيرة بلا مبرر مفهوم، بالإضافة إلى الاستخدام المفرط للموسيقى.)
ختاماً، في عالم قول القصص المرئية كل شيء ممكن. لكنك ملزم بخلق عالم لقصتك واتباع قوانينه. حينئذِ، ستبدو قصتك أكثر واقعية وإقناعاً للمشاهد. أما العالم الذي بلا قوانين فيروي قصة هلامية. وكما السيمفونية، فالصور المتحركة تحتاج، قبل وأهم من كل شيء، إلى نص مكتوب بتعقيد وأداء متناغم ومؤثر. والتعقيد هنا ليس نقيض البساطة، كما أن البساطة ليست مرادفاً للضعف. الأعمال المعقدة هي تلك التي تقول الكثير بالتركيز على النوع لا على الكم. هي تلك التي تختبئ خلف أحداثها وأفعالها وحواراتها معانٍ أكبر. والأهم من هذا كله، هي تلك التي تقول قصةً مكتملة، ومتماسكة. وسد الغريب، بالرغم من محاولاته لتقديم شكل جديد للرواية الدرامية، لم ينجح في معالجة أهم مشكلتين في صناعة المسلسل اليمني: السيناريو والأداء.