تجربة السينما الإيرانية الجديدة: دعوة للدراسة


يتنامى اهتمام الشباب اليمني بصناعة السينما بصورة لافتة مؤخراً. اختار بعضنا الدرب الأكاديمي منخرطين في معاهد سينمائية وجامعات، بينما اتجه الباقون، وهم كثر، نحو التعليم الذاتي عبر مواقع تعليمية على الإنترنت—لعدة أسباب، أهمها ندرة الفرص وصعوبتها. هذه الجهود مشجعة، ولا شك في أنها تدعو للتفاؤل. والمأمول هو أن تستمر التجارب حتى تتكون حركة سينمائية يمنية ناضجة في السنوات القادمة. ولن يتسنى لها ذلك إلا عبر الاستفادة من تراكمات التجارب في مجال صناعة السينما في مختلف الدول؛ ولا سيما تلك التي تقع في محيطها الإقليمي وتتشابه معها في سياقاتها الثقافية.

تنشأ الحركات السينمائية وسط عوامل ثقافية وتاريخية تُهيئ لها أسباب وجودها. بعضها نشأ لأسباب سينمائية بحتة كحركة الموجة الجديدة في فرنسا (French New Wave) التي أسسها نُقاد سينمائيون في أواخر الخمسينات ممن تحولوا لصناع أفلام بسبب استيائهم من هوليوود والبنية الآلية التي أخذتها الأفلام. وبعضها لأسباب سياسية كحركة سينما العالم الثالث (Third World Cinema) التي نشأت في الأرجنتين في ستينات وسبعينات القرن الماضي ثم توسعت لتشمل أجزاء من “دول العالم الثالث” كردة فعل على الإمبريالية والرأسمالية الغربية. وهنالك حركات نشأت لتلك الأسباب مجتمعة كحركة الواقعية الجديدة في إيطاليا (Neorealism). غير أن العامل المشترك هو أنها لم تنشأ بمعزل عن تلك التي سبقتها.

يدرس رواد الحركات السينمائية تلك المدارس ويطورون منها (مثل الإيطالييَن روسيلليني ودي سيكا، الفرنسييَن جودارد وتروفو، والإيرانييَن مهرجويي وكيمايي). فكما استفادت الواقعية الجديدة الإيطالية من الواقعية الشعرية الفرنسية (Poetic Realism)، تعلمت الموجة الجديدة في فرنسا من مدرسة إيطاليا. ثم جاء المخرج الإيراني ونهل من المدرستين، مقدماً السينما الإيرانية الجديدة (New Iranian Cinema). وبسبب القرب الجغرافي، الثقافي، والاجتماعي بين إيران واليمن، تُركز هذه المقالة على التجربة الإيرانية وتبحث في الخصائص التي بإمكان صانع الأفلام اليمني أن يستلهم منها في تجربته. 

تاريخ الصناعة السينمائية في إيران

دخلت إيران عالم السينما مبكراً. في1925 قام المخرج والمخترع الأرميني-الإيراني أوفانيس أوهانيان بتأسيس أول مدرسة للأفلام، وأخرج أول فيلم سينمائي إيراني في 1930 بعنوان “آبي ورابي”. أنتجت بعدها إيران عشرات الأفلام سنوياً لمدة ثلاثة عقود، في فترة يطلق عليها بعض النقاد FilmFarsi. كانت معظم أفلام تلك الحقبة تجارية بحتة، متأثرة بسينما بوليوود. لكن التحول الأكبر الذي غيّر شكل السينما الإيرانية وأعلن ظهور الموجة الجديدة الإيرانية (Iranian New Wave) حدث في سنة 1969 مع إنتاج ثلاثة أفلام: “البقرة” لداريوش مهرجويي، “قيصر” لمسعود كيمايي، “والهدوء في حضرة الآخرين“ لناصر تقوايي. تتابعت بعدها الأعمال الفنية التي حذت حذوها كفيلم “عاصفة 1972 لبهرام بيضائي و “المسافر 1974 لعباس كياروستامي قبل أن يتوقف مدّ الموجة الجديدة مصطدمة بصخرة الثورة الإسلامية. إذ اعتبر النظام الإسلامي السينما وسيلة “لإفساد الشباب”، حسب تعبير آية الله خميني، حتى عاد الرجل نفسه وأباح وجودها ضمن مساحات تعبير مسورة ومراقبة.[1] حينئذ عادت الحركة السينمائية واستؤنفت انتاجاتها مع المخرج أمير نادري عبر فيلم العداء 1984، ومع عباس كياروستامي في فيلمه الذي وضع السينما الإيرانية على الساحة العالمية أين منزل صديقي 1987. ويختلف النقاد على تسمية الحركة بين الموجة الجديدة الثانية والسينما الإيرانية الجديدة، لكننا في هذه المقالة سنشير لها بالسينما الإيرانية الجديدة، على الرغم من أنها تمثل امتداداً للحركة السابقة.


صناعة السينما في اليمن

على المستوى اليمني بشطريه، كانت السينما، وما زالت، فكرةً تجيء وتذهب منذ خمسينيات القرن الماضي، حتى أنتج وأخرج السلطان صالح بن غالب القعيطي في حضرموت فيلم “عبث المشيب” في 1950، و” من الكوخ إلى القصر” الذي أخرجه الفنان جعفر محمد علي، في العام 1963 بعدن[2]. ثم توقفت بعدها محاولات الإنتاج المحلي حتى بدايات الألفية الثالثة. ذكرت الناقدة هدى جعفر في مقال نشرته على موقع “عين على السينما” أن حكومة يمن ما بعد-الوحدة أنشأت المؤسسة العامة للمسرح والسينما، والمعهد العالي للفنون المسرحية، وبحسب الكاتبة، فإنهما لم يكونا سوى “وكرًا آخر للنّهب“[3]. لعل أول محاولة سينمائية روائية تستحق الإشادة تتمثل في فيلم “يوم جديد في صنعاء القديمة 2005” للمخرج بدر بن الحرسي، يليه فيلم “أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة 2014” لخديجة السلامي، وصولاً إلى فيلم “عشرة أيام قبل الزفة”2019 لعمرو جمال. وخلال المراحل الزمنية التي تفصل تلك الأفلام محاولات مستمرة يقوم بها مخرجون ومخرجات شباب عبر أفلام قصيرة يصنعونها بإمكانياتهم الخاصة والبسيطة.

إمكانيات بسيطة

بإمكانيات بسيطة وشحيحة كذلك، صُنعت وتُصنع معظم أفلام السينما الإيرانية الجديدة. تتسم أفلام الحركة ببساطة الصورة، قلة مواقع التصوير، ارتكازها على أماكن وشخصيات حقيقية، والاعتماد على شخصية رئيسية واحدة تتمحور حولها القصة كلها. في 1997، توّج مهرجان “كان” السينمائي عباس كياروستامي بجائزة السعفة الذهبية عن فيلمه “طعم الكرز”، وهي الجائزة الأهم في المهرجان. يحكي الفيلم قصة رجل أربعيني (إرشادي همايون) يجوب بسيارته شوارع طهران بحثاً عن شخص يقوم بدفنه بعد أن ينتحر. تدور معظم أحداث الفيلم داخل السيارة، وبين الفينة والأخرى يصور لنا جبال طهران وناسها. غير أن الحوارات التي يخوضها الأربعيني مع الشخصيات—التي يطلب منها تلك الخدمة الصادمة—حول جدوى الحياة وإحباط الإنسان الإيراني تقدم لنا عملاً استحق أن تُصنفه الـبي بي سي ضمن أعظم مائة فيلم.  اضطر لاتباع نفس النمط المخرج جعفر باناهي حين صدر بحقه حكم قضائي، في 2011، يمنعه من الكتابة والإخراج لمدة عشرين عاماً. إذ تحايل، بعدها بأربع سنوات، على هذا الحكم، وقرر قيادة سيارة أجرة، قام خلالها بتصوير محادثاته مع الركاب، منتجاً فيلم” تاكسي”2015 الذي تم تهريبه للمهرجانات الدولية. تدور في الفيلم نقاشات حول ثقافة الإيرانيين السينمائية وحبهم لها بالرغم من نظام الرقابة. فاز الفيلم بجائزتي النقاد والدب الذهبي في مهرجان برلين الدولي 2015.

نموذج القصة القصيرة:

 تعتمد السينما الإيرانية الجديدة في صناعة الأفلام الروائية الطويلة على “نموذج القصة القصيرة” حسب تعبير حميد نفيسي، أحد مؤرخي السينما الإيرانية. يقتبس نفيسي، في كتاب التاريخ الاجتماعي للسينما الإيرانية، من الناقد الأمريكي إم. إتش. إبرامز قوله إن كاتب القصة القصيرة “يُقدم عدداً محدوداً من الشخصيات لأنه لا يمتلك رفاهية التطوير والتحليل المطول للشخصية، ولا يستطيع خلق الجو الاجتماعي العام كما يستطيع كاتب الراوية“[4]. وكذلك يدرك المخرج الإيراني أنه لا يمتلك الإمكانيات الإنتاجية والمساحة التعبيرية التي قد يملكها مخرج أوروبي أو أمريكي. ففيلم “العدّاء” يأخذنا في رحلة عدوٍ على امتداد الميناء والبحر برفقة طفل خسر منزله بسبب الحرب. وفي فيلم “أين منزل صديقي؟”، نستكشف قرى كوكر وبوشته الإيرانيتين وناسها بعيني طفل يبحث عن منزل زميله في المدرسة كي يعيد إليه دفتره. ونتتبع في فيلم “المرآة “1997، لجعفر باناهي، الطفلة التي لم تأت والدتها لأخذها من المدرسة فتقرر البحث عن منزلها في شوارع طهران المزدحمة. قد تبدو هذه القصص مفرطة في سهولتها، لكن مشاهدتها بتمعن تقودنا إلى إدراك أن هذه الأفلام بسيطة، لكنها ليست سهلة. تُقدم لنا تلك الأفلام حوارات فلسفية وأخلاقية، تنقل لنا مشاهد من حياة الإنسان الإيراني، وصوراً شعرية يعتقد المشاهد لفرط جمالها أن الصدفة خلقتها، متجاوزة رؤية المخرج، لكنها، في الحقيقة، مُصممة بدقة فائقة. إن نموذج القصة القصيرة بعدد شخصياته ومواقعه المحدودة قد يُمكن المخرج اليمني من الاشتغال، بإمكانياته المتوفرة، على أفلامٍ مكتملة ومتماسكة. والأهم من ذلك، قد يُلهمه التركيز على قصص لا تنحصر حول الثأر والموت وزواج القاصرات والإرهاب (شخصياً، كان موضوع الإرهاب من نصيب أول فيلم لي).


اليومي والاعتيادي والتجذّر في ثقافة البلد:

 تُركز قصص السينما الإيرانية الجديدة على الحياة اليومية، العادية، والاعتيادية. سواء كان ذلك لأسباب سياسية كضيق مساحة التعبير وصرامة نظام الرقابة الإسلامي، أو لأسباب فنية مثل تأثر مخرجين كعباس كياروستامي وجعفر باناهي ومحسن مخملباف بشعراء صوفيين ذوي أصول فارسية كجلال الدين الرومي وعمر الخيام وحافظ الشيرازي، أو تأثير أفلام إيطالية تنتمي لمدرسة الواقعية الجديدة كأفلام روسيلليني ودي سيكا. لكن الدافع الأهم، كما يظهر في أفلام أولئك المخرجين، هو شغفهم بتفاصيل الحياة الإيرانية والإنسان الإيراني.  “لكي تصنع عملاً يستطيع فهمه جميع من في العالم، عليك أن تتجذر عميقاً في ثقافة بلدك…تعرّف على الأماكن والناس وأفكارهم، ما يسعدهم وما يقلقهم“قال عباس كياروستامي[5] . في فيلم “ستحملنا الرياح”1999، من إخراج الأخير، يذهب فريق تصوير لتغطية خبر وفاة امرأة تجاوز عمرها المائة، لكنهم يكتشفون فور وصولهم أن المرأة لم تمت بعد، فيمكثون في ترقب. وبينما هم منتظرون، يستكشف مدير الطاقم حياة أبناء القرية وحكمتهم. وفي فيلم المرآة، يأخذنا جعفر باناهي برفقة الطفلة التي تحاول إيجاد منزلها. على متن الباص، ينسى المُشاهد الطفلة لوهلة ويستمع لمحادثات الناس التي لا تقول شيئاً ذا أهمية لكنها نقاشات آسرة وممتعة. واليمن ثري بتنوع لهجاته، ثقافاته، أراضيه، وأبنائه، وإن تجذرنا عميقاً في هذه المجتمعات، فسنحكي قصصنا للعالم؛ لا ليفهمها فحسب، بل ليستشعرها ويتأثر بها.


العمل مع اللاممثلين:

أحد أبرز الخصائص التي تعلمتها المدرسة الإيرانية من الواقعية الجديدة هي عملها مع ممثلين غير محترفين أو ما يُعرف باللاممثلين (Non-actors)، وبالأخص سينما عباس كياروستامي. في كتاب” دروس مع كياروستامي”، الذي يلخص المحاضرات التي قدمها طوال حياته، يحذر تلاميذه من العمل مع أنصاف المحترفين، أي مع الممثلين غير الجيدين، فإما أن تعمل مع ممثل محترف، متقن لمهنته ومتحكم بموهبته، أو ابحث عن خيارات أخرى. وما هي تلك الخيارات؟ “من يستطيع أن يؤدي دور رجل أميّ، سائق تاكسي، أو امرأة متدينة، أفضل من رجل أميّ، سائق تاكسي، وامرأة متدينة” يجيب كياروستامي[6]. وهو، بالطبع، لا يقصد ما يقوله بالمعنى الحرفي، بقدر ما يقصد أن يبحث صانع الأفلام عن أناس من الشارع يحملون الصفات التي يبحث عنها المخرج. للعمل مع اللاممثلين تحدياته وعوائقه الخاصة، ولا يمثل حلاً سحرياً لمشكلة الشحة في الممثلين المحترفين، كما أنه يتطلب أيضاً قدرات إخراجية عالية لإقناع الناس وكسب ثقتهم.  ومع هذا، قد يكون هو الحل الأنسب للمخرج اليمني الذي دائماً ما يواجه صعوبة بالغة في الوصول إلى ممثلين.

حققت السينما الإيرانية الجديدة منجزات عديدة على الصعيد المحلي والعالمي ليس بسبب قدرتها على تجاوز الصعوبات فحسب، بل لأنها قدمت أعمالاً تعكس نظرة المخرجين الشاعرية والمعقدة للبلد والإنسان. ينسب حميد نفيسي أحد أسباب هذا النجاح لثقافة أولئك المخرجين العالية؛ في كتابه، يذكر أن مخرجي السينما الجديدة كانوا مفكرين ومثقفين قبل أن يكونوا فنانين، وأنهم صاروا شخصيات ذات احترام وتقدير في المجتمع؛ لأنهم، كعباس كياروستامي، يستخدمون الكاميرا كقلم، أو ما يطلق عليه “القلم-الكاميرا (Camera-pen)“[7]. أما الناقد أحمد طالبي نجاد، مؤلف كتاب “حدث بسيط: مراجعة للموجة الجديدة في السينما الإيرانية”، فيقول، في مقابلة أجراها في1995 لمجلة همشرى، أن مخرجي الموجة الجديدة طوروا من ذائقة المُشاهد الإيراني الذي لم يعد يقتنع بأفلام الأكشن والعنف، مستشهداً بفيلم “عبر أشجار الزيتون1994” (كياروستامي) الذي حصد 15 مليون تومان في فترة قصيرة، بينما فشلت أفلام الأكشن والعنف التي صدرت خلال نفس الفترة[8]. يتفق نفيسي وطالبي نجاد في أن أولئك المخرجين استطاعوا أيضاً تغيير نظرة بعض شرائح المجتمع الإيراني التي كانت تحمل وجهات نظر عدائية تجاه السينما. 

سبق تاريخ نشوء الحركات السينمائية سنوات كثيرة من الإعداد، والدراسة، والتجربة. ويرافق تلك السنوات الكثير من الإصرار. لم يكن طريق مخرجي السينما الإيرانية محفوفاً بالورود. على العكس تماماً، فلا يزال جعفر باناهي ممنوعاً من صناعة الأفلام بأمر من المحكمة، ويقبع المخرج محمد رسولوف في السجن أثناء كتابة هذا الموضوع. هذه ليست رسائل تحفيزية تبسط عوائق اليوم، وتسطح عملية تخلق حركة سينمائية، بل دعوة للاستعداد لها. وأتمنى أن يجد قارئ المقالة طريقه في هذه السينما التي تشبهنا جداً.


Jab

Billungual Art Director, Designer & Photographer 

http://www.ajaber.com
Previous
Previous

سد الغريب: ملاحظات على البنية والأداء